كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



* ويتحدث عن الدمار والهلاك الذي يعقب وقوع الآيات والتكذيب بها.
* ويتحدث عن الآخرة وقواعد الدينونة والجزاء فيها.
* ويتحدث عن المفاصلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يعدلون بربهم ويتخذون من دونه أربابا يشرعون لهم، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إعلان حقيقة دينه جلية واضحة حاسمة.
* ويتحدث عن الربوبية الواحدة للعالمين جميعًا، والتي لا يجوز أن يتخذ المؤمن من دونها ربوبية أخرى.
* ويتحدث عن ملكية رب العالمين لكل شيء، وتصريفها لكل شيء، وعن استخلاف الله للناس كيف شاء، وقدرته على الذهاب بمن يشاء منهم عندما يشاء.
وهذه هي ذاتها القضايا والحقائق، والمؤثرات والموحيات التي حشدها في أول السورة عند عرض حقيقة العقيدة في محيطها الشامل. محيط الألوهية والعبودية وما بينهما من علائق.. ولا ريب أن لهذا دلالته التي لا تخفى على من يتعامل مع القرآن الكريم ومع المنهج القرآني.
يبدأ هذا المقطع الأخير في هذا الشطر من السورة بالحديث عن كتاب موسى.. وذلك تكملة للحديث السابق عن صراط الله المستقيم: {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} للإيحاء بأن هذا الصراط ممتد من قبل في رسالات الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وشرائعهم. وأقرب شريعة كانت هي شريعة موسى عليه السلام، وقد أعطاه الله كتابا فصل فيه كل شيء، وجعله هدى ورحمة لعل قومه يؤمنون بلقاء الله في الآخرة: {ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن وتفصيلًا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}.
ويستمر فيذكر الكتاب الجديد المبارك، الملتحم بالكتاب الذي أنزل على موسى، المتضمن للعقيدة وللشريعة المطلوب اتباعها والتقوى فيها. رجاء أن ينال الناس- حين يتبعونها- رحمة الله في الدنيا والآخرة: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون}..
ولقد نزل هذا الكتاب قطعًا لحجة العرب، كي لا يقولوا: إنه لم يتنزل علينا كتاب كالذي تنزل على اليهود والنصارى؛ ولو قد أوتينا الكتاب مثلما أوتوا لكنا أهدى منهم، فها هو ذا كتاب يتنزل عليهم، ويقطع هذه الحجة عليهم، فيستحق الذين يكذبون العذاب الأليم: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم.. فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}..
لقد انقطعت المحجة بنزول هذا الكتاب؛ ولكنهم ما يزالون يشركون بالله؛ ويشرعون من عند أنفسهم ويزعمونه شريعة الله، بينما كتاب الله قائم وليس فيه هذا الذي يفترونه. وما يزالون يطلبون الآيات والخوارق ليصدقوا بهذا الكتاب ويتبعوه. ولو جاءتهم الآيات التي يطلبون أو بعضها لكان فيها القضاء الأخير: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون}.
وعند هذا الحد يفصل الله سبحانه بين نبيه صلى الله عليه وسلم وسائر الملل المتفرقة التي لا تقوم على توحيد الله عقيدة وشريعة. ويقرر أن أمرهم إليه سبحانه وتعالى وأنه هو محاسبهم ومجازيهم وفق عدله ورحمته: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}.
وهنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا القطاع- وهو الإيقاع الأخير في السورة- في تسبيحة ندية رخية، حازمة كذلك حاسمة، تلخص أعمق أعماق الحقائق العقيدية في هذا الدين: التوحيد المطلق، والعبودية الخالصة، وجدية الآخرة، وفردية التبعة والابتلاء في دار الدنيا. وسلطان الله المتمثل في ربوبيته لكل شي؛ وفي استخلافه للعباد في ملكه كيف شاء بلا شريك ولا معقب.. كما ترسم تلك التسبيحة المديدة صورة باهرة لحقيقة الألوهية، وهي تتجلى في أخلص قلب، وأصفى قلب، وأطهر قلب.. قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.. وذلك في مستوى من التجلي لا يصوره إلا التعبير القرآني ذاته: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربًا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}..
ونكتفي هنا بهذا القدر من الحديث المجمل، لنأخذ في مواجهة النصوص بالتفصيل:
{ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلًا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}..
هذا الكلام معطوف بثم على ما قبله.. وتأويله: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا...} {وأن هذا صراطي مستقيمًا} معطوفة على جملة: ألا تشركوا.. {ثم آتينا موسى الكتاب...} معطوف عليهما كذلك باعتباره من القول الذي دعاهم ليقوله لهم صلى الله عليه وسلم فالسياق مطرد كما أسلفنا.
وقوله: {تمامًا على الذي أحسن}.. تأويله- كما اختار ابن جرير: «ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده، وأيادينا قبله، تتم به كرامتنا عليه، على إحسانه وطاعته ربه، وقيامه بما كلفه من شرائع دينه. وتبيينا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم»..
وقوله: {وتفصيلا لكل شيء}. كما قال قتادة: فيه حلاله وحرامه.
وهدى ورحمة لعل قومه يهتدون ويؤمنون بلقاء ربهم فيرحمهم من عذابه..
هذا الغرض الذي من أجله آتينا موسى الكتاب، جاء من أجله كتابكم، لعلكم تنالون به الهدى والرحمة:
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون}..
وإنه لكتاب مبارك حقًا- كما فسرنا ذلك من قبل عند ورود هذا النص في السورة أول مرة: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} [الآية: 92].. وكان ذكر هذا الكتاب هناك بمناسبة الحديث عن العقيدة في مجالها الشامل؛ وهو هنا يذكر بمناسبة الحديث عن الشريعة بنص مقارب! ويؤمرون باتباعه؛ وتناط رحمتهم من الله بهذا الاتباع. والكلام هنا بجملته في معرض الشريعة، بعد ما تناولته أوائل السورة في معرض العقيدة.
وقد بطلت حجتكم، وسقطت معذرتكم، بتنزيل هذا الكتاب المبارك إليكم، تفصيلًا لكل شيء. بحيث لا تحتاجون إلى مرجع آخر وراءه؛ وبحيث لا يبقى جانب من جوانب الحياة لم يتناوله فتحتاجون أن تشرعوا له من عند أنفسكم:
{أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}..
لقد شاء الله سبحانه أن يرسل كل رسول إلى قومه بلسانهم.. حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة أرسل الله محمدًا خاتم النبيين للناس كافة. فهو آخر رسول من الله للبشر، فناسب أن يكون رسولًا إليهم أجمعين.
والله سبحانه يقطع الحجة على العرب أن يقولوا: إن كلا من موسى وعيسى إنما أرسلا إلى قومهما. ونحن كنا غافلين عن دراستهم لكتابهم، لا علم لنا به ولا اهتمام. ولو جاء إلينا كتاب بلغتنا، يخاطبنا وينذرنا لكنا أهدى من أهل الكتاب.. فقد جاءهم هذا الكتاب وجاءهم رسول منهم- وإن كان رسولًا للناس أجمعين- وجاءهم بكتاب هو بينة في ذاته على صدقه. وهو يحمل إليهم حقائق بينة كذلك لا لبس فيها ولا غموض. وهو هدى لما هم فيه من ضلالة، ورحمة لهم في الدنيا والآخرة..
فإذا كان ذلك كذلك، فمن أشد ظلمًا ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها وهي تدعوه إلى الهدى والصلاح والفلاح؟ من أشد ظلمًا لنفسه وللناس بصده لنفسه وللناس عن هذا الخير العظيم، وبإفساده في الأرض بتصورات الجاهلية وتشريعاتها.. إن الذين يعرضون عن هذا الحق في طبعهم آفة تميلهم عنه؛ كالآفة التي تكون في خف البعير فتجعله يصدف- أي يميل- بجسمه ولا يستقيم! إنهم {يصدفون} عن الحق والاستقامة، كما يصدف البعير المريض عن الاعتدال والاستقامة! وهم مستحقون سوء العذاب بصدوفهم هذا وميلهم:
{سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}..
إن التعبير القرآني يستخدم مثل هذا اللفظ، المنقول في اللغة من حالة حسية إلى حالة معنوية ليستصحب في الحس أصل المعنى.. فيستخدم هنا لفظ يصدف وقد عرفنا أنه من صدف البعير إذا مال بخفه ولم يعتدل لمرض فيه! كذلك يستخدم لفظ يصعر خده وهو مأخوذ من داء الصَّعَر الذي يصيب الإبل- كما يصيب الناس- فتعرض صفحة خدها، اضطرارًا، ولا تملك أن تحرك عنقها بيسر، ومثله استخدام لفظ {حبطت أعمالهم} من حبطت الناقة إذا رعت نباتا مسمومًا فانتفخ بطنها ثم ماتت! ومثلها كثير..
ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب.. وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد. وهو يتكرر هنا، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله: فقد جاء في أول السورة: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا يُنظرون} وجاء هنا في آخرها:
{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا قل انتظروا إنا منتظرون}..
إنه التهديد الواضح الحاسم. فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتمًا إذا جاءت الخارقة ثم لم يؤمن بها المكذبون.
والله سبحانه يقول لهم: إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده.. وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولاعمل.. لنفس لم تؤمن من قبل، ولم تكسب عملًا صالحًا في إيمانها. فالعمل الصالح هو دائمًا قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام.
ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك} هو أشراط الساعة وعلاماتها، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل. وعدوا من ذلك أشراطًا بعينها.. ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة الأولى. فقد سبق مثله في أول السورة، وهو قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون} والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة، وأن هذا ملحوظ ومقصود، لتقرير حقيقة بعينها. فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية. وهو كاف في التأويل، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول..
بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض- بما فيها ملة المشركين العرب:
{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}..
إنه مفرق الطريق بين الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل..
سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها، شيعًا وفرقًا وقبائل وعشائر وبطونا. أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلًا ومعسكرات ودولًا. أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من هؤلاء كلهم في شيء.. إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله؛ ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز.. وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات؛ ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات.. وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام.. إسلامي.. وشيء آخر..!!! إن الإسلام إسلام فحسب. والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب. والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان!
إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى.
وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده- وبالتعبير الآخر: ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده- إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى.. قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام!
إن الدين عند الله الإسلام.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام.
وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجًا، وغير شريعة الله شرعا..
الأمر هكذا جملة. وللنظرة الأولى. بدون دخول في التفصيلات!